> وحده فؤاد كنعان يكتب في مطلع رواية حديثة هذا البيت لعمرو بن الحارث الجرهمي:
كأَنْ لم يكنْ بين الحجون الى الصفا
أنيسٌ ولم يسمَرْ بمكة سامرُ
ويضع لروايته العنوان “كأَنْ لم يكنْ” كما يضمّنها في سياق لغته الحداثية ابياتاً لأبي العلاء المعرّي… وابياتاً من الشعر بالمحكية.
فؤاد كنعان الذي توفي اول من امس واحد من رواد الرواية في لبنان، يحمل في شخصيته وكتابته روح التجديد اللغوي الذي راده اللبنانيون منذ اواسط القرن التاسع عشر، حين تخفف نثرهم من السجع والمفردات الميتة والجمل الطويلة الى حيوية في الصياغة توازي ايقاع العصر والى جمل قصيرة تحيل النثر الى حركة دائمة وتضمنه قدراً كبيراً من الضوء والشفافية.
تأثر بمارون عبود الذي كان يستخدم مفردات عامية لها اصول في الفصحى، لكنه تجاوز كلاسيكية عبود الصارمة الى رهافة وانفتاح على اشياء الحياة اليومية. واذ مارس كنعان هندسة العبارة والجملة والسياق لم يفعل ذلك بتكلف انما بعفوية السارد الذي يملك في مخيلته ما يفيض عن الكلام فليس محتاجاً بالتالي الى كلام مجاني ولعب لغوي مجرد.
ولعبة اللغة التي أغوته استطاع ان يمارسها من خلال الجوّ الروائي نفسه، ففي “على أنهار بابل” فصول يلعب فيها الصرف والنحو دوراً في المشهد الروائي يماثل الطبيعة والبشر بل يفوقهما بسبب جدّته وطرافته.
لكن فؤاد كنعان لم يوصل لغته الى ما يعادل نفسيته، وهو المعروف بعبثيته وعدميته احياناً لم يسمح لمزاجه هذا بأن يصل الى الصياغة نفسها فيغيّرها ويبعث فيها الارتجاج وشبه الجنون. وتلك النفس المعذّبة القلقة المليئة بالحرارات لم تمسّ شكل النص وهندسته كأنه يعتبر العربية ذات قداسة بقدر ما تفتّحت في احداث الرواية مسرحاً وشخصيات.
مجموعتاه القصصيتان “قرف” و”أولاً وآخراً وبين بين” وروايتاه “على انهار بابل” و”كأَنْ لم يكنْ” مجاميع لإيقاع الحياة اللبنانية ومزاجها بين القرية والمدينة، بل انها تجارب لا بد من قراءتها فنياً في ضوء محاولة الأدب اللبناني تجاوز الجمالية الانشائية الى التركيب الروائي الحديث، ومحاولة فؤاد كنعان وقفت في الموقف الوسط بين الامرين، من هنا نجاحه في سياقات الوصف وتململه من سياقات الحوار والحركة الفيزيائية للاشخاص والاشياء.
كاتب ينبغي ان تصل تجربته الى القارئ العربي الأوسع لأنها تقدم نكهة جديدة وتجارب بعضها غير مسبوق في مزجه بين الوصف والتأمل والسخرية والمرارة والعبث في حدوده القصوى. وقد كان فؤاد كنعان اخيراً يشعر بفقدان القراء وبالجرح العميق لحروب لبنان وازماته المتلاحقة، فاعتزل وانتظر الموت كرحمة. ولعل افضل وصف لحاله تلك ما كتبه عن شخصية الأب في “كأَنْ لم يكنْ”:
“والذي يتتبّع صُور ابي، طوال هذه الحقبة وما أفرزته من أهوال، يستبينُ القهقرى التي تقهقرها في تقويمه لماهيّة الحياة وطينة الانسان … انه الانسان الذئب، بل أين من أنيابه أنياب النواهش والذئاب. وان ما سنّوه له من سُنن وكوابح، وما زيّنوه له من مُثُل وجماليات، وما داناه بالعلم من اجواءٍ، وأعالي اجواءٍ، انما يظلُّ باطلاً وقبض ماء.
لا اخال أبي، كان في طبيعته وطبعه، بهذه الباطلية، بل هو صار. … في شحوب المغارب ها هو اليومَ. وها هو لا أمل يُؤمِّلهُ بعد، سوى الامل الخائف، والخائف جداً علينا نحنُ من عبث الايام. والسبحةُ الشقراء أمست كدراء، لفرط ما تداولتها أنامل الحُزن…”.