المقدمة اليتيمة التي وضعها “شيخ الأدباء” مارون عبّود لكتاب فؤاد كنعان “قرف” عام 1947 تدل على الأثر الذي كانت تنمّ به أقاصيص ذلك الكاتب الشاب الذي كان له من العمر حينذاك ستة وعشرون عاماً. بدت تلك الأقاصيص الشابة جديدة في نظر الأديب الكبير الذي كان بمثابة المرجع في المحك النقدي، لبنانياً وعربياً. وجدّة هذه الاقاصيص التي جذبت مارون عبّود ستتجلى لاحقاً في حركة التخطي أو التجاوز التي سيحققها كنعان بجرأة ووضوح كليين في كتابه القصصي الثاني “أولاً وآخراً وبين بين” الصادر عشية الحرب اللبنانية عام 1974. وإن بدت المسافة بين الكتابين غير قصيرة بل ربما طويلة في حياة الكاتب الدؤوب، فإن الاقلال في الكتابة لن يعني إلا الاغراق في الابداع القصصي الصرف. وعرف كنعان أصلاً في كونه كاتباً مقلاً، ومتأنياً على طريقة “المتحذلقين” الفرنسيين على أن ما كان يطلّ به حيناً تلو حين كان دوماً أشبه بالحدث المنتظر. وهكذا ظل هذا الكاتب النادر الخامة واللغة، حتى أيامه الأخيرة، متأنياً وشغوفاً بل نزقاً. وكان صدور أي عمل حدثاً أدبياً لا بد من الترحاب به والاحتفال. متابعة قراءة جمالية اللعنة وأناقة الألم – عبده وازن – الحياة – 12/9/2001
الوسم: عبده وازن
ربيع فؤاد كنعان – عبده وازن – 14/10/1999
كلّما تقدّم فؤاد كنعان في العمر ازداد ألقاً ونضارة. كأن هذا القاص اللبناني الرائد ما برح يصرّ على مواجهة الزمن بما هو أشد ضراوة منه وأقصد الكتابة ولكن الكتابة الحادة والجارحة والمشوبة أبداً بالسخرية والعبث والشك. وإذ تظنّه مطمئناً، هذا الكاتب الصعب المراس والمقلّ والحافر حفراً في قلب اللغة، يفاجئك دوماً بما لا تتوقعه منه: نصوص نزقة فيها الكثير من قلق الوجود وعبث الحياة وقتامة الشك. وإن قيل عن فؤاد كنعان أنه صائغ ماهر في نثره وذو نزعة الى الشكل والأسلوب فإن هذه الصفة لم تنفِ عنه يوماً انشغاله بالأسئلة الوجودية والقضايا التي يجبهها الكائن والألغاز التي تكتنف حياته. وقد نجح فؤاد كنعان كما لم ينجح سواه في الجمع بين أناقة التعبير وعمق المعاناة، بين صفاء اللغة وسويداء القلب، بين الصناعة الجمالية المهذبة والسخرية المرّة… وكان منذ كتابه الأول “قرف” الذي وضعه في مقتبل العمر مأخوذاً بالهمّين معاً: كيف يكتب وماذا يكتب. وقصصه الأولى تلك الساخرة والأنيقة، الجميلة والموجعة، استوقفت “شيخ الأدباء” مارون عبّود فاستنّ لها مقدمة هي المقدمة اليتيمة التي خص بها كتاباً طوال حياته. آنذاك وجد رائد الأدب اللبناني في صوت فؤاد كنعان بحّة غير مألوفة، عسلاً وعلقماً في الحين عينه. وفي قصصه تلك بدا الكاتب الشاب سليل الأدب اللبناني بامتياز ولكن في حال من التمرّد عليه وعلى رموزه. فهو لم يتوان عن السخرية من “الموضوعات” التي ملأت أدب الريف ومن الشخصيات التي كثيراً ما وردت في عيون آثاره. سخر من الأكليروس الماروني ومن القيم التي حفل بها أدب القرية ومن الخرافات اللبنانية التي شاعت في مطلع القرن. ونمّ أدبه الباكر عن روح عبثية مدينية بامتياز أمدتها ثقافته الفرنسية ببعض “السموم” النقية وهي لديه من لزوم ما يلزم.