الخميس 9 آذار 1989 – الديار – ثقافة وفنون ثقافية انطلياس تكرم فؤاد كنعان في روايته عقل ينازع الفكر

كرمت الحركة الثقافية انطلياس الروائي فؤاد كنعان في احتفال رافق المهرجان اللبناني للكتاب .
قدم الاديب الدكتور لطيف زيتونة في كلمة جاء فيها :
لعل فؤاد كنعان من اكثر كتاب القصة ، عندنا ، وقوفاً على الجديد . بيد ان ما يميزه ليس الجدة بل العمق . سر فؤاد كنعان ان موضوعه هو بعض وجعه ، يكتبه بقلبه وعقله وحواسه جميعاً ولأنه يكتب كذلك ، فهو يتوجه الى كل ذي قلب وعقل وحواس : الى القارئ الباحث عن متعة القص ، وعن اناقة التعبير ، وعن بعد الخيال ، والى القارئ المتسائل عن معنى وجودة ، والممتلئ حنيناً الى المكان الذي كان ، والزمان الذي مضى . الكتابة عند كنعان فعل هروب وتصد معاً : هروب من زمن اليأس والموت ، وتصدٍ للزمن الهارب بنا دوماً الى اليأس والموت ، الى الشيخوخة والعدم .
مع باكورته « قرف » ، ثم مجموعته « اولاً واخراً … وبين بين » ثم رائعته « على انهار بابل » ، حمل كنعان مرآته السحرية يتمرأى بها ، فيكتشف دواخل الناس ، ويواجهه بها المجتمع ، فتنكشف له فيها ذاته وحياته ومصيره .
لقد واجه كنعان المجتمع كإطار تتمحور فيها ذاته :
* واجه الكنيسة ، فما رأى جامعاً يجمعها بعالم اليوم لفرط ما غابت عن هموم الناس واهتماماتهم .
* واجه الزواد ، فهاله انتظار وضجر ، وليال تتشابه ، وافعال ، ولذات ، وعمر متشابه حزين .
* واجه الجنس فرأى الوعاظ يحرمون ما حللته الطبيعة ، ويعزون بما يتنافى مع نعمة الحياة .
* واجه الدولة ، فوجدها مغارة علي بابا صيغ لها دستور .
* واجه التاريخ ، فألفاه صفحات مزورة تصور جابي السلطان اميراً ؛ وتصور كم الافواه ، وبقر البطون ، وسمل العيون ، عدلاً .
* واجه ممثلي الشعب ، فرأى مجلسهم متحف شمع ، سيركا يتوراثه كذبة دجالون منذ نصف قرن .
* واجه الحرب فوجدها « حرب عملاء وحرب باعة ، باعة جماجم وباعة اوطان ، وباعة شعارات ، وباعة كذب : واما القضية ففي المراحيض » .
واجه كل ذلك ، فصرخ صرخة مطعون : « قرفت ان اكون لبنانياً ، قرفت . اريد ان ابعد … لا حياة لي في بلادي ما لم ابع واشتر واسمسر واهرب واعكرت وازوج امراء ! … » .
كنعان : السمك الوثاب
الروائي كنعان رد بكلمة ركز فيها على ترافق الثقافة والحضارة في بناء الاسس السليمة للأوطان وقال :
من يقل حركة ثقافية في قوم ما ، يقل بداهة حركة حضارية . ومن يقل تقدماً ثقافياً في هؤلاء ، يقل بداهة تقدماً في الحضارة .
وليس قصدي ، هنا ، تعريفاً بشيء معروف ، بل توكيد واشارة : ان الثقافة والحضارة عنصران متلازمان ، مترافدان ، متكاملان . وما من عطية ثقافية تهدي الى انسان الا وينال في المقابل عطية حضارية . وهكذا العكس .
وبديهي ايضاً ان ازدهار الافكار والمعارف والفنون في شعب ما ، رهن بازدهار العقل والقلب والروح في هذا الشعب . فحيث يبور القعل ، ويحفت القلب ، ويخبو وميض الروح ، ينازع الفكر ، وتلفظ الآداب والفنون انفاسها ، وتشيع العتمة في جوانب الحياة . واية حياة تبقى في بشر تكون حياتهم قد ارتدت الى جسد يأكل ، وجسد يشرب ، وجسد يتغاوى ، وجسد يزول ؟ …
ولبنان ، هذه الحبة المتوهجة في غلس الشرق ( وليس هذا من معدن الفخر والحماسة … ) عاش على مدى عمره الحديث ، وبمقياس قوة وقدرته طبعاً ، عاش حالات من التوق الثقافي ، فكراً وادباً وفنونا ًومؤسسات ، كانت تنحسر حيناً امام زحف الطغيان ، لتعود فتتنامى حيناً اخر ، في مثل اعراض المد والجزء . كل ذا في معزل عن اية رعاية تأتي من خزينة او بيت مال ـ تماماً كالأزهار الفواحة تنبت من تلقائها في جوانب الحقل .
… ما اشبه جيلنا بجيل الاحباط والخيبة !
ما كدنا نولد في اعقاب حرب اولى رانت علينا بالجوع والمظالم ، لنستشرق مطالع امل غض ، حتى دهمتنا حرب ثانية قصفت من امالنا اينع طرابينها ، وطرحتنا خارج الملكوت .
يوم طلعنا من حربنا الاولى الى مدارسنا الاولى كانت عاصمتنا ترفل بالقراميد الحمر وتلاويح النخل والبرتقال ، وكانت صناجات الشعر تصطفق فيها ، عكاظاً تلو عكاظ .
ويوم طلعنا من حربنا الثانية ، كانت عاصمتنا تموج ببشائر استقلال ناجز ، وبهاتيك الآمال المنشودة ، والعزائم المعقودة ، والطموحات البلا حدود …
ولكن ،
ولكن مذاك ، كم من امال وادنا ، وكم من عزائم بددنا ، وكم اسقطنا من طموح … وكم أسأنا صنع الاشياء ، وكم دنسنا النعمة .
والانقياء منا ، يومها ، الذين نذروا طاقاتهم لهيكل العقل والروح ، تصدعت طاقاتهم ، وفقدوا كنههم المعافى ، وتردوا وسط الطريق .
والانقياء منا ، يومها ، الذين جهدوا ان يرقوا بذاتهم من دركات الذات الدنيا الى تلك التي من شغف وروح ، عادوا لا يجدون في نفوسهم الا نفوساً من تراب .
وتم فيهم . قول فولتير في اهل القلم من اهل زمانه : « انهم كالسمك الوثاب . اذا هو تعدى وجه الماء تلقفته الكواسر ، واذا هو غطس ، راح نهشاً لكبار ، الاسماك » .
اما اليوم فما عسانا نقول ؟
وطن صغير مدمى هو هذا الوطن ، صحيح ، ولكنه وطن طائش ، تنكر لدعوته ، فأنكرته دعوته ، وتركته على مدى سنين يحصد غلال ما زرع ، حروباً شنت عليه وبه وفيه ، حتى امسى الموت اخف خطوبة ، ويا ارحم الراحمين ! ..
شباناً ، كان ليكون لجيلنا امل يرتجيه .
شيوخاً ، اي امل يرتجى بعد ، سوى الامل الخائف على مستقبل البنين ؟ …
مع هذا الزمن المرير الذي عشنا ونعيش ، لم تعد ، والله ، حياتنا هي التي تحز فينا ، بقدر ما يحز فينا عبث الحياة .
وغداً ، اذا الحرب شاءت ان تضع اوزارها ـ كما يقول الفصحاء ـ وان تترك لبنان وشأنه ، يلملم شأنه ، يكون قد حان لهذا الابن الشاطر ، العائد من حتفه ، ان يطرح مشروعاً نهضوياً ، يحتضن مرافق الثقافة لديه ، ويحيطها بالرعاية والحدب .
وهذا ما كان « قبلة المصلي » في ما مضى ، وما لم يأخذ طريقه الى تجسيد .
حري بهذا المشروع ، في حال تجسيدها يوماً ، ان يطمح الي ، ويطمح في تحقيق تطلعات المبدعين وحقوقهم ، عبر وزارة ثقافة جديرة بهذا الاسم ، او عبر مجلس وطني متعدد الاهتمامات ، يكون لأهل القلم والفن في منزلة الحاضن ، والضامن .
انه المشروع ـ الحلم ! …
ولا يضاهيه في « احلاميته » الا الحلم بأن يكتسب المشروع حقيقته على يد لبنان معافى ، ودولة رائية ، تعي حقيقة دورها في الشأن الحضاري .

المصدر